Tuesday, February 20, 2007

Mai Ghoussoub left at her top...

رحيل كاتبة وفنانة ومناضلة من زمن الشغف الكبير

مي غصوب تغادر في عزّ عطائها

المستقبل - الثلاثاء 20 شباط 2007 - العدد 2535 - ثقافة و فنون - صفحة 19


بول شاوول

مي غصوب، رحلت،هكذا، فجأة، وبلا إنذار، أو نذير. وقع خبر رحيلها كصاعقة. ذلك، أن أهل الشغف، إذا ما رحلوا، يقع خبر رحيلهم (كرحيل شغف) كالصاعقة.
مي غصوب، أعرفها، منذ منتصف السبعينات، عندما كان لها أن تختار المواجهة، وأن تنخرط في المقاومة، بقوة شغفها، أي بقوة انتمائها، إلى كل ما يجعلها تقف على الضفة الخطرة، ضفة الحالمين بالحرية، والتحرير والتغيير والقضايا الكبيرة، وفي الخضم، فقدت إحدى عينيها، في النبعة كما أذكر. وكنا مع أصحاب لها في الشغف والتغيير ما لها: ديب القارح (في المنفى) وحنا الغاوي (رحمه الله)، ورالف غضبان (في المنفى) عندما التقيناها بعد الاصابة وكان علينا أن نتبيّن تأثير الصدمة على امرأة شفيفة وكان لها أن تجعل مما أصابها، ضريبة للنضال الحي، الواعي، الكبير.
حتى العظم. والشرايين. والأفكار التي تساوي تحوّلات، كانت مي في التزامها. التزام امرأة ساكنها الشغف، وسكنها المستقبل، وأقلقها عميقاً ما كان يدور من حروب، وتقلبات، وعنف، وقهقرى، وتخلف. ملتزمة حتى المجازفة. وعندما كان عليها أن تغادر إلى باريس، ومن ثم إلى لندن، كان عليها أن تنتقل من شغف والتزام إلى شغف والتزام آخرين. فابنة الشغف لا تعيش بلا شغف. أقول انتقلت من حلم إلى حلم، لأقول جمعت كل الأحلام المكسورة وغير المكسورة في تنكب آخر ربما أشد وقعاً وأصعب: الفن والنحت والمسرح والكتابة، أي الثقافة، لا كواجهة، ولا فيترينة، ولا ألقاب، ولا وجاهة، ولا سلطة. الثقافة كمكان أخير لاسترجاع زمن التناقضات، والمواجهات، بالكلمة، والازميل... والكتاب، في زمن كادت تصبح فيه جزءاً من متاع الأنظمة والسلطة والتجار وأهل العنف والمصادرة والظلامية والتخلف. انتقلت من زمن التنوير والتغيير إلى الزمن النقيض لكن بالاصرار ذاته، وبالعناد ذاته، والشفافية ذاتها، وقفت مي في الضفة المواجهة. فالمقاومة نفسها. والعدة اختلفت أو فلنقل تنوعت. ومن لندن، كان لها، أن تكتب في فضاء متسع، عن المرأة، وعن الرجل، وعن الواقع العربي، والحداثة وما بعدها، بلغة تكسر الكليشيات، والأفكار الجاهزة، أي بلغة حية، مستبطنة تاريخاً ونضالاً، وحروباً، ونضجاً، وعِبَراً، وإبراً. كتبت بكل تجاربها. وبكل آفاقها. وبكل إيمانها. ذلك أن أهل الشغف، كمي غصوب، هم أهل الايمان، الايمان الرحب، أو ذلك الفضاء الوعر الذي يختار الانسان أن يخترقه، وإن على غير مرتجى دائماً، أي النضال كشرط وجودي لحياتنا، كشرط كينوني. ولا يهم إذا وصلنا به إلى ما نتحققه. مي غصوب، ولأنها حالمة، (وكم نفتقد الحالمين) عرفت جيداً أن النضال سبيل شاقة، قد ندرك أواخرها وقد لا ندركها. والمهم أن السبيل، قد يكون أهم من الوصول. والخروج، الخروج من الظواهر التاريخية، والاجتماعية والسياسية السائدة، أهم من الوصول...
من الكتابة، وفي زمنها المتناقض، إلى النحت، وجمالياته الخصبة، المعبّرة، الموجعة، القاسية على شغيفها، فإلى الكتاب، كمكان أو كمآل مواجهة، ومقاومة، لظواهر الاستهلاك، والافراغ، والتكسب، والتواطؤ، والتنازل، والقهقرى، والمسايرة، والتقلب، والقفز بين الانتماءات... ولا تبرير، ولا تأويل. الكتاب كآخر المواقع المهددة، من طواغيت الميديا الاستهلاكية، والمسطحة، وكانت "الساقي". وهذا، إلى كتابتها المروسة، النقدية، والتحليلية، في شؤون الانسان العربي، والمرأة، والرجل، والمجتمع والحروب إلى ما يسمى ما بعد الحداثة، وما فيها، وما عليها، وما في أوهامها وأساطيرها، وفي حقائقها، جمعت مي عنواناً واحداً: اختراق الواقع العربي الاسمنتي، والتواصل مع إرث التنوير، والتوجه بمحمول "التاريخ" على غير تقنين في الرؤية، وحتى على غير ايديولوجيا أحادية أو هوية مغلقة، انه فضاء الكتابة المفتوح. فضاء النشر المفتوح. فضاء الفن المفتوح. فضاء الموقف المفتوح. أي فضاء المستقبل (بكل ما في الكلمة من تخوّف وريبة في زمن الارتباب هذا) المفتوح.
صحيح أن لقاءاتنا كانت قليلة، ومي. لكن كان التواصل أقرب، وأكثف، عبر ما كانت تنتجه، وتجترحه، وتعمل عليه، وتناضل من أجله. إنها ما زالت آتية، مي غصوب، من ذلك الزمن السجالي. زمن الأحلام "المتصارعة"، زمن الاحلام المتصلة، على تناقضها وتناكرها، زمن التنوّع، ومن ذلك الزمن (قبل الحروب المتتابعة عندنا، وقبل النكسات وسيادة الحقائق الغيبية حتى العنصرية) ما زالت تقطف، حتى آخر رمق من أرماقها، من مخزون حرية متسعة، ومن "زوّادة" للزمن الحاضر وللزمن الآتي! ومن عجينة ثقافة خصبة وعميقة وكثيرة. ذلك، أنني لا أستطيع أن أتخيّل مي غصوب إلا وافدة من ذلك الزمن الحي (زمن الأحلام)، في مطالعنا، ومن ذلك الزمن الآتي... في تطلعاتها!
إنها ابنة زمنين، وعالمين، اختارت أن يكونا في زمن واحد... هو زمن الشغف الكبير الذي لا ينتهي ولا ينفد!
وأخيراً، لا بدّ لي من أن أتوجه بالتعزية الحارة إلى زوجها الصديق حازم صاغية، الذي أقدّر كم أن وقع رحيل رفيقته كان قاسياً عليه، وشاقاً، وإلى شقيقتها هدى... وكل أهل الشغف الراحلين... و"الباقين" حتى إشعار آخر.

No comments: