Monday, February 19, 2007

From Al Nahar

الكاتبة الفنانة صاحبة "دار الساقي" لم تعد بيننا
حيــــاة مـــي غـــصـــــوب خــــدعـــهـــــا المـــــوت الأرعـــن

من كان يظن أن الموت يستطيع بهذه السهولة أن يتغلب على مي غصوب!
لا أحد من المقربين منها، ولا من عارفيها البعيدين، ولا من متابعي نشاطاتها، كان يعتقد أن ذلك ممكن، وبهذه السرعة. لكنها الحقيقة القاسية. فها هي مي غصوب، الناشرة والكاتبة والفنانة اللبنانية، والناشطة في المجال الثقافي العام، والحاضة الأسئلة والمقاربات في الفكر، وفي الحداثة وما بعد الحداثة، وفي نشر الكتب، وفي المسرح وما بعده، وفي الفنون ما بعد الحديثة، وخصوصاً في فنون النحت والبرفورمنس والتجهيز، وفي قضايا المرأة وتحررها، تقفل الستارة على نفسها، وتغيب، تاركةً كل شيء، الحياة وقضايا الفكر والأدب والفن والعقل، وما يشبهها، عرضة للأسئلة اللانهائية وللأسى الكبير.
أول من أمس توفيت مي غصوب في لندن، اثر حادث صحي طارىء كان ليكون عرضياً لو لم يتحوّل الى نهاياته الأليمة، في حين كانت في عزّ صحوتها العملية، نشراً وتنشيطاً ومساهمات. صحيح أن مي غصوب كانت تقول كلمتها بنهمٍ يشي بالخشية من مفاجآت الغد، لكنها لم تكن تقولها كأنها ستمشي الآن، والى الأبد. ذلك أنها كانت تعتقد ان الكلمة - الفعل، كلمتها - فعلها، تظل في حاجة الى ما يكمل سعيها الى الاكتمال خارج ذاتها، في الأشياء وظلالها، وفي الأذهان التي تتلقى المعرفة، وفي الأعين التي تلتهم الكتب والمشهديات، وتظل جائعة.
كانت مي غصوب، المولودة لخمسة وخمسين عاما خلت في بيروت، تعمل كأنها تعيش أبداً. بل كانت تعيش وتعمل كأن العيش والعمل سينقطعان غداً، أو كأنها ستسافر الى غير رجوع. هذه الـ مي، هذه الكتلة الصاحية من الحيوية، لم تعد بيننا الآن، فمن يستيقظ غداً في الصباح لـ"يسقي" بالحبر صفحات الكتب والمنشورات والترجمات التي كانت تتولاها في دارها اللافتة، "دار الساقي"، والتي كانت تتعهد الكتب المثيرة للأسئلة وللمناقشات وللآراء المتنافرة والضدية، الطليعية والمستفزة والجريئة، وتترجم، وتتصدى للمسائل الأكثر حساسية وتحدياً للعقل في العالم العربي؟!
قبل أن تكون ناشرة، كانت مي غصوب تلك الناشطة في أوساط الشبيبة الجامعية، منذ كانت في الجامعة، بأفكارها، وبشخصيتها، وبقوة لمعانها الذكي والمبادر، وبيساريتها التروتسكية التي كان يقال إنها متطرفة، وخارجة أحياناً على اليسار. ولا عجب، فقد كانت تنتمي الى ذلك الجيل من الفتيات والفتيان الذين ورثوا عن الجيل السابق مرارات الهزائم والخيبات والجدران المسدودة. فأيّ وعاء سوى وعاء "الأفكار الثورية" كان ليستوعب في ذلك الزمن من السبعينات والثمانينات، وما بعد، ما آلت اليه أحوال المنطقة العربية، واحوال العقل العربي "الرسمي"، وخصوصاً ما كان يُطرح على هذا العقل من أسئلة وتحديات، لم يكن يجيد دائماً التصدي لها، او يقترح لها احتمالات الاجوبة المناسبة.
شقّت مي غصوب طريقها وسط تلك المناخات العامة من الهزائم والتمردات، لكن لتجد نفسها، كما الكثيرات والكثيرين من أبناء جيلها، أمام انكفاء - كي لا أقول عجز - "الأفكار الثورية" نفسها عن التمكن من تحدي الواقع الثقافي العربي، المتقوقع على نفسه، والملتهم نفسه، أو عن فتح ثغرة جوهرية في جداره السميك. هنا، ليس المجال لإبداء الرأي النقدي سلباً او إيجاباً، لكن لقارىء مي غصوب ان يجد في كتابها "ما بعد الحداثة/ العرب في لقطة فيديو" (1992) تأويلا مفاده أن العرب مقصّرون وفق تحليلاتها عن الدخول في الحداثة، والسير في ركابها، ممارسةً وتطبيقاً، في الميادين كلها، وتالياً أن لا سبيل الى استيعاب هذا التقصير إلاّ بالتماهي مع الفكر الغربي، أو، في الأقل، بالأخذ منه، واستلهامه، للخروج من المأزق الكبير. ذلك، تأويلاً أيضاً، أن الشفاء لديها من مشكلات العالم العربي، وخصوصاً في مجال السؤال العقلي، يكون بالدخول في العقل الغربي ومكوّناته ومستلزماته وشروطه.
كان ثمة لدى مي غصوب شغف كبير بمفكري ما بعد الحداثة الغربيين، وهي أخذت على عاتق دارها ترجمة مساهماتهم العقلية والفكرية والثقافية والنقدية، واختباراتهم في المجالات كافة، لتضعها في أيدي قرائها العرب، وأمام أذهانهم، ليكونوا على بيّنة مما يعتمل في الغرب من أسئلة ومناقشات ومناخات وتطلعات.
درست مي غصوب الادب الفرنسي في كلية التربية في الجامعة اللبنانية، ثم حازت شهادة في الرياضيات من الجامعة الاميركية. سافرت بداية الى باريس ومنها انتقلت الى لندن (1979)، حيث درست النحت في "مورلي كوليدج"، وهناك اسست "دار الساقي"، حيث بدأت النشر بالانكليزية، ثم انتقلت الى النشر من بيروت بعد انتهاء الحرب لتصدر الكتب بالعربية.
كانت تشعر كأن لندن مثل بيروت ثانية بالنسبة إليها، وكانت هاتان المدينتان مدينتيها، بل، والقول لها، "مدينة شاسعة واحدة يكمل كل من طرفيها المتنائيين ما في الطرف الآخر من قصور ونواقص". فكأنها صنعت لنفسها مدينة تخصها وعلى مقاسها، وهذه زاوية جديدة تماما للنظر إلى تجربة المهجر، ففي وعيها أن الوطن ليس تلك المساحة المعزولة عن العالم بالحدود على الخرائط، بل ان الوطن قابل للاتساع بقدر ما تتسع رغبة الفرد في تحقيق ذاته وفي التواصل الخلاّق مع العالم.
من مبادئها أن الناشر الذي يحترم نفسه لا يكون عنده موقف متحفظ من الكتب التي ينشرها، وإلا يكون يمارس بذلك دور القامع أو الرقيب، مشددة على جودة المضمون الثقافي في ما تنشره، كسبب حاسم للنشر، غير قابلة بشروط مسبقة حيال هذا المضمون أو ذاك.
في نيسان 2006، قدّمت في بيروت عرضاً في عنوان "قتلة الكتاب" ينتمي الى فن البرفورمنس، ويروي مصير منزل دخله ذات يوم مقاتلون في حرب كالتي تدور في احياء مدينة تحت ظلال حرب اهلية، ولم يغادروه سوى بعد عملية نهب وكسر وحرق كانت من أهم ضحاياها مكتبة الدار.
مارست مي غصوب أيضاً فن النحت، في جملة نواحي الشغف والاختبارات التي انشغلت بها. حول هذا الموضوع، قالت في أحد أحاديثها: "أحب النحت لأني أحب أن أغطس وأشتغل بيديّ. وهذا الشيء يعطيني الإحساس بإنسانيتي، بدأت بالطين وبالجبس ثم انتقلت الى ما هو اقسى، الى الحديد، لكي أثبت أن حتى الحديد يمكن أن يكون عنده جمالية حسية متحركة وقابلة للتطويع". ما الأقرب الى قلب مي غصوب؟ الكتابة أم النحت أم النشر؟ تجيب: "لا أستطيع أن اختار. كلها لغاتي وامتداداتي".
الآن تغيب مي غصوب بعدما خدعها الموت الأرعن. وها هي تترك كل شيء وتغيب. لكنها، على طريقتها، تندفع، وكما العادة، كالأطفال نحو استكشاف تفاصيل العالم من حولها بقدرتها "الطفولية" أيضا على الخربطة.
الآن، بدل أن تستمر في خلخلة السائد، ها هو جسدها يعتريه الخلل، فتغادر. لكن بقاءها الحقيقي يظل ينبع ويتدفق هادرا من داخل فعلها الثقافي، ومن القدرة على النفاذ إلى الجمال الكامن عميقا في الأشياء من حولها تحت القشرة الصلبة المتجهمة.

شادي وهبة



No comments: