إقـــرأوا نــص مـــي غـــصــــــوب قـــبــــل الــحــــــــرب الأهــــلـــــــيــــــة الـــجــــــديـــــــدة
جهاد الزين
لم أعرف مي غصوب شخصياً سوى بعد زواجها من حازم صاغية. لقاءاتي معها كانت نادرة جداً، مرة مع زوجتي رغداء على عشاء عند ندى وحسن داوود وأحياناً عابرة في معرض كتاب أو في الشارع أو في مناسبة عامة في لبنان ومرة قبل حوالى 13 سنة في منزلهما في لندن. لفت نظري في تلك السهرة عدد من الفنانين والمثقفين السعوديين والخليجيين الذين يتكلمون الانكليزية أكثر من العربية في احاديثهم الشخصية... إنه "جوّ" لم استغرب لاحقاً حين تحول في اصدارات مي غصوب عبر "دار الساقي" الى بعض أهم ما نشر من إنتاجات أدبية أو بحثية أو سياسية في العالم العربي في العقد المنصرم.
مي غصوب بنت جيلنا. بنت الجيل الذي دخل من الجامعات على أرض بيروت الى الحرب الاهلية عام 1975. هي علامة من علامات تحولاته وإصاباته وخبراته، مثل كثيرين. لكنها، بين قلائل ممن كانوا (وكنّ) يعطونني الانطباع دائماً عبر ما يعملون وما يكتبون عن وعيهم الدائم لضرورة "تطوير" امكاناتهم الشخصية.
بالصدفة وحدها قلت لحسن داوود قبل أقل من عشرة أيام، إنني قرأت مرة ثانية نصها: "قتلة الكتاب" الذي اعدّته لعمل مسرحي. لم أحضره، ولكني كنت قرأته عندما ارسلته لي "دار الساقي".
هذا النص المهم، "وقَعْت" عليه وأنا أعيد تنظيم رفوف مكتبتي التي لا تزال تحت وطأة فوضى مربكة في "توزيع المواضيع" منذ انتقلت الى منزلي الجديد في شارع مي زيادة في القنطاري قبل أقل من سنتين، فقرأته ثانية كأنه كابوس فجائعي... للحرب الاهلية الآتية... لا للحرب الاهلية الماضية التي لا شك ان ذاكرة مي الممتلئة بها، هي التي استوحت إطاره المشهدي... ومنحته في مونولوجاته عمقاً عصبياً وثقافياً يطرح مأساة علاقة الابداع الثقافي بالواقع... بالنوع الأكثر بربرية وانحطاطاً من الواقع: الحرب الاهلية.
قارنت يومها... وقد مضت على القراءة الثانية ليس أكثر من ثلاثة اسابيع، بين هذا الموقف الحاسم (والطبيعي) الذي تأخذه كاتبة هي ايضاً مثلنا "قطفت الحرب زهرة شبابها" كما يقال، فتعتبر نفسها معنية (حتماً) بعدم إضاعة أية فرصة أدبية أو تحليلية للذهاب أعمق ما يمكن في رصد مفارقات الحرب على صعيد ليس متداولاً كثيراً... الحرب على "رف" مكتبة تحترق... بينما وحوش "الايديولوجيات" المتصارعة يحتفلون بـ"الانجازات" السياسية وبلغة "فكرية" على لهيب جثث مجتمع منهار يومها.
... قارنت بين "موقف" مي في نصها الشفاف والموجع وبين "مواقف" مثقفين من جيلها (جيلنا) خاضوا الحرب الاهلية السابقة وظهروا الآن مستعدين - بالاندفاع نفسه ولكن بمبررات مختلفة مع تغير "القوى" السياسية والاجتماعية على "خط التماس" - مستعدين لأن يخوضوا الحرب الاهلية الجديدة الآتية. بعضهم من جيلنا، بل بعضهم من معارف مي، ولربما من اصدقاء مي: هذا الى جانب قوة سياسية يعامل ايديولوجيتها الدينية وكأنها الايديولوجية الماركسية، وآخر في "الخندق" المضاد يكتب في دفء تيار سياسي بحدة وتركيز وعدم تردد بدينامية السبعينات... وثالث في تلفزيون ورابع في نقابة... وخامس بل "خامسون"... في باريس ونيويورك... كأن جيلنا جيلان: أهل حرب سيخوضونها ضد بعضهم البعض "ثقافة" وسياسة وشارعاً، وأهل سِلم يكاد وعيهم ضد "الحرب الاهلية" يجعلهم ضد... السياسة بكاملها... وهم بكاملهم مسيّسون! مسيّس ضد السياسة!
لا أتحدث عن حزبين... في جيلنا الذي خرج من الجامعة عام 1975 الى الحرب الاهلية. لقد تقاتلنا سابقاً في تلك الحرب. وبعضنا انسحب مبكراً أو متأخراً، وأحياناً كثيرة أخذ الانسحاب شكل "التوبة" وأحياناً أخرى شكل المواجهة. اليوم نحن فريقان فقط: "الذاهبون" الى الحرب... و"الهاربون" منها.
وكم أشعر هنا بل كم أنا متأكد ان الشجعان الحقيقيين (على المستوى الثقافي) هم المنسحبون، حين يعني "الانسحاب" رفض خوض حربين أهليتين في جيل واحد. وهو ايضاً رفض التحالف مرة ثانية مع السياسة التي لن يقودها الا الرعاع عندما ستقع الحرب، هذه المرة ليس بين المسلمين والمسيحيين بل بين الشيعة والسنة.
الرعاع يجب أن نقودهم الى تغيير "شروط" حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لا أن يقودوننا.
إقرأوا الفقيدة مي غصوب في نصها الاخير... قبل الحرب الاهلية الآتية.
وليصرخ كل أهل الكتب ضد "قتلة الكتب" الآتين: لا قضية أعلى من تلافي الحرب الأهلية! لا قضية على الإطلاق.
No comments:
Post a Comment