مي: أوتوبورتريه بعد الوفاة
مي الحبيبة،
سامحيني: في غيابك، لن أتحدّث عنك. لن أكتب عن الناشرة الشجاعة والكاتبة القديرة والفنانة المتنوّعة والمرأة الحنون والانسانة الحيوية المتفرّعة مشاريعها في ألف اتجاه واتجاه. لن اسرد ذكريات رحلتنا معاً الى ايطاليا في العام الفائت. ولن أروي المرة الأخيرة التي التقينا، هنا، في الـDT، حول كأس من النبيذ ودردشة وضحكات. لن أقول كيف أنك في ايميلك الأخير قلت لي وجعك حيال ما يجري في بيروت...
ما ان بلغني نبأ رحيلك الصاعق، حتى جلست افلفش في الأوراق والكتب والذاكرة، لأقوم بكولاج، كولاج متنوع المادة، يشبه مزاجك في الفن والحياة. جملة من هنا، فكرة من هناك، ثم ولدت محاولة القبض عليك في اوتوبورتريه موجز. ولكن، هل تُختصر من مثلك في سطور؟
في غيابك، سأدعك تكتبين نفسك بنفسك. وهل افضل من ميّ تحكي عن ميّ؟
*
تقول مي:
"يوم ولدتُ، غادر الدكتور غرفة التوليد والتوتر باد على وجهه. مرّ بوالدي من دون أن ينظر إليه. فالدكتور رزوق لم يكن يحب أن تولد البنات على يديه، وكان يشعر ان سمعته كطبيب نسائي تهتز مع كل بنت تأتي الى الدنيا من طريقه. تلك هي قصتي، وقصة المنطقة التي ولدت فيها.
لكن ذلك لم يجعلني نسوية متعصبة. بل أجد من البديهي ان يرفض شخص مثلي النسوية. فأنا امرأة تؤمن بأن فضاءات الرجل ليست عصية تماماً، ولا هي غامضة يصعب التعامل معها. نحن لسنا رجالا او نساء فحسب، لسنا اريستوقراطيين أو عمّالا: نحن أمور كثيرة واشخاص كثيرون. للأسف لقد ضيّقنا رؤيتنا عن أنفسنا الى اقصى الحدود، حتى باتت كليشيه متفّها.
أنا، مثلا، أرى نفسي إنسانا في الدرجة الاولى. لستُ ممن يحملون هوية. أو حريّ بي أن أقول إن لديّ هويات متعددة. صحيح، أنا امرأة، ونحن النساء نحتاج الى الزعبرة والتلاعب لكي نتمكن من العيش: هذه حقيقة لا بد من الاعتراف بها. لكني ضقت ذرعا بشهرزاد، وبكونها استعارة لا مفرّ منها للتعبير عن مشكلات المرأة أو الكاتبة العربية، وشعارا للكتابات النضالية النسوية. أجمل ما في الأدب أن ليس عليه أن يبرهن شيئا. إذا ما تمسّكنا بالايديولوجيا وخضنا حملة لنثبت شيئا ما في كتاباتنا، كيف يمكننا التعبير عن أنفسنا كأفراد؟
في اي حال، ثمة حاجة الى تكرار أقل واستكشاف أكثر في آدابنا وفنوننا العربية: استكشاف لذواتنا، ولجنسانيتنا خصوصاً. أنا، مثلا، شرعت في النحت لأني احتجت الى الملامسة، الى توليد اشكال، الى الاحتكاك بالجسد، الى الهروب من الذهني المحض.
أحيانا اشعر أن السبب الوحيد الذي يدفعني الى الكتابة او النحت أو النشر هو مدينتي بيروت وتناقضاتها. أما أهمّ طقوس بقائي على قيد الحياة، فهو من دون شك القراءة. أمسك بكتابي كأنّه كنز، أو كأنّه دولاب نجاة للحفاظ على توازني. أنا مدمنة على الكتب. والإدمانات ليست كلّها مضرّة بالصحّة.
أصلا، لطالما قلتُ: الكلمات لا تقتل. البشر هم الذين يقتلون".
*
كتبت صديقتي مي غصوب، هنا في هذه الصفحة بالذات، في 9 كانون الثاني الفائت: "أنا أعيش أفقيّاً، وغير مستعدّة للوقوف".
كتبت أيضا: "إنّني في نعيم".
لا أشكّ في أنها، حيث هي، هناك...
جمانة حداد
joumana.haddad@annahar.com.lb
No comments:
Post a Comment