Sunday, March 04, 2007

Mai did not leave Lebanon

كتاب أشبه بالسيرة الذاتية والثقافية ... مي غصوب لم تغادر بيروت

نازك سابا يارد الحياة - 25/02/07//


في كل ما كتبت مي غصوب، أو حررت، جزء من روحها، ولكن قد يكون كتابها «مغادرة بيروت» الذي صدر بالإنكليزية عام 1998 صورة لمختلف نواحي هذه الروح الغنية. فالكتاب نسيج من الذكريات الشخصية والوثيقة التاريخية والبحث الأخلاقي حيث تبيّن مي أن بيروت في كل مكان: في البوسنة، في رواندا والأرجنتين حيث تكرّر ما عانت هي في حرب بيروت.

فصول الكتاب الخمسة عشر بمثابة سلسلة من الرسائل تخاطب فيها السيدة نومي، معلمتها حين كانت في الثانية عشرة، وهي تركت فيها أثراً لم يمحُه الزمن حين نبهتها إلى سبل العفو والمسامحة وبشاعة الانتقام والثأر. لم ترسل الرسائل إلى السيدة نومي، لكنها ضمنتها كل ما خبرت وشاهدت وشعرت به وفكرت فيه، تقيّمها على ضوء دروس معلمتها الحبيبة بعد أن فارقتها. وتحولت الرسائل إلى هذا الكتاب.

تتذكر مي كلام السيدة نومي عن العفو والمسامحة حين تعرفت إلى «جدة ليلى» التي قضت حياتها غاضبة، ناقمة على زوجها الذي كان يخونها سراً، عاجزة عن الثأر منه، فكان عجزها عن العفو سبب عذابها حتى آخر حياتها. على نقيض «أم علي» التي استُغلت وظُلمت كخادمة، ولكن حين أتاحت لها الحرب أن تنضم إلى المقاتلين، أن تصبح «البطلة أم علي»، لم تفكر على الإطلاق في الانتقام ممن أهانها واستغلها وظلمها. «لم ترغب في الثأر. تطلعت إلى ما بعد الحياة بدلاً من التطلع خلفها، إلى ما تضمنت الحياة.» (ص74) ولكن مي غصوب تعلق على قيمة كل من العفو والثأر. ففي «الحكم على المرء» تؤكد ضرورة ربط الأعمال بما يترتب عليها من نتائج، فلا ينبغي ترك قضايا المسامحة أو اللوم والعقاب لمن يخلط بينها وبين الانتقام. فاللوم والعقاب شيء، والانتقام شيء آخر.

إلا أن الموضوعين الأساسيين اللذين يشغلان مي هما: مشكلة المرأة التي كانت محور اهتماماتها في جميع كتاباتها، ولا سيما مشكلة الحرب والعنف وكل ما يرتبط بهما من قيم ومفاهيم ومواقف.

ففي «بطولة أم علي» تصور مأساة الفتيات الصغيرات اللواتي يشتغلن خادمات في أسر لا تعرف الرحمة ولا الرأفة ليقبض الأب أجر أتعابهن. و»ثأر جدة ليلى» تقدم مأساة الصبية التي تزوّج من رجل لم تره في حياتها، تعيش معه في الغربة، وحيدة، فيما ينصرف عنها إلى عشيقة سرية. وتنتقد في «شرف وعار» تحرش الرجل بامرأة تكون محشورة قربه في سيارة «سرفيس» ولكنه يقتل ابنته أو أخته غسلاً لعار يعتبر أنها سببته لقبيلته. كما تنتقد وحشية ختان البنات. فالمرأة في مجتمعنا دائماً تحت المجهر: تراقب أفعالها، أقوالها وتحركاتها، وتدفع الثمن. وليست المرأة العربية وحدها ضحية المجتمع الذكوري. ففي «رموز ذات رؤوس حليقة» تتفحص الأديبة صورة امرأة فرنسية اتهمت بالتعامل مع المحتل الألماني، فحُلق شعرها، رسم أنوثتها، وسارت بين جموع أحاطت بها ساخرة ضاحكة. فالمرأة هي أبداً ودائماً الضحية.

ولكن ما يطغى على معظم الفصول هي الحرب التي تلاحق مي حتى في غربتها، وما يرافق هذه الحرب من عنف ودموية ووحشية وظلم. في «نوع من الجنون» تصف مساعدتها اللاجئين الفلسطينيين في مخيم صبرا وشاتيلا وقصة حبها الجارف للمناضل الفلسطيني أبي فراس. ولكن بعد أن جرح أخوها في الحرب هربت من بيروت، وأدركت أن حبها هذا لم يكن سوى محاولة للتغلب على خوفها من الموت المنتشر حولها. تقول ذلك بصراحة وصدق، وبالصدق نفسه تفضح تعامل مقاومين فلسطينيين مع مهربين عالميين مدّعين «أن الطريق إلى التحرر لا يمكن أن تكون طاهرة ونظيفة،» وتثور على الجرائم التي اقترفها من سموا «شهداء». فأخذت تكره الحرب وكل من حمل سلاحاً في سبيل قضية، لتبيّن أن الحروب تحوّل الأفراد إلى أعضاء في مجموعات أو ميليشيات أو عصابات حيث يعاقب الفرد فقط لأنه ينتمي إلى هذه المجموعة أو تلك، ولو كان ضدها، فالإنسان لا يستطيع الإفلات من مـتطـــلــبات مجتمعه وتقاليده. وهنا تتساءل عن موقف الناس من الوشاية، وهل هي دائماً مستنكرة؟ وعن الغموض الذي يرافق معنى الكرامة والعدالة في المجتمع اللبناني؟ لتؤكد أن معايير الشرف لا يمكن أن تتحقق من غير أن ترافقها الخيانات. في مثل هذه التأملات نرى أن مي غصوب لا تكتفي بنقل ما تشاهد وتختبر، وإنما تسبر الأغوار طمعاً بالتوصل إلى حقيقة ما.

وفي كرهها للحرب وغضبها على العنف ترينا في «تحوّل سعيد»، مثلاً، كيف حولت الحرب سعيد من مراهق لطيف، خدوم، بشوش، إلى مقاتل ينعشه خوف الناس حين ينظرون إلى بندقيته، يعتزّ بعدم اضطراره إلى الوقوف في الصف، يدغدغ كبرياءه أن يحترمه من كان يحتقره سابقاً، ويشفيه أن يذلّ الآخرين ويراقب خوفهم منه، وكأن هذه المشاعر كلها جاءت ردة فعل لغضبه على والده الذي كان دائم التذلل للآخرين. بل تحوّل سعيد إلى مقاتل عنيف، مجرم، وقنّاص لا يعرف الرحمة، لا يفكر في غير الانتقام من الذين كانوا سبب إذلال والده والقضاء على مورد رزقه، وانهيار أعصاب أمه وإصابتها بالهستيريا. وإذ تتذكر مي غصوب درس معلمتها تتساءل: هل يمكن نسيان مثل هذه الفظائع ومسامحتها؟! وفي نقمتها على العنف والقتل تبكي صديقها الدائم الابتسامة والفضول الذي اغتاله المجرمون «غير مبالين بابتسامته الدائمة» لأنه تجرأ على انتقاد ظلم الديكتاتورية في وطنه. كذلك تثور على اغتصاب البوسنيات، وعنصرية اللندنيين الذين أحرقوا منزل أسرة آسيوية بمن فيه، فكان أكثر ما يؤلمها هو انتشار العنف في مختلف أنحاء العالم. حتى الانتحاريون الذين يمجد المجتمع تضحيتهم بحياتهم في سبيل قضية ما، تنتقدهم مي في «مسعى نهى وشغف فلورا» لأنهم في شغفهم بالخلود والدم يخلطون بين سعيهم الى العدالة وإكسير الخطر. فإنسانية الأديبة ترفض العنف والقتل أياً كانت مظاهره ودوافعه.

ومن هنا تبدي إعجابها الشديد بنيلسون منديلا في»المسؤولية، الحقيقة والعقاب» إذ قرّر أن يسامح وينسى وأن يحوّل الماضي البشع إلى مستقبل مشرق جديد (ص155)، على نقيض جدة ليلى التي عجزت عن التخلص من ماضيها. فضحايا العنصرية في جنوب أفريقيا لم يتصرفوا، بإيعاز من منديلا، كضحايا، وإنما كأفضل ما يكون عليه الإنسان. وتربط هذه القضية بمشكلة معقدة، مشكلة الحقيقة: فهل من العدل أن نضحي بالحقيقة كي نؤمّن السلام؟ ثم إن العدالة ملأى بما هو نقيضها (ص 169) فالعدالة القانونية ليست مسألة بسيطة في مجتمع متعدد، ولذلك يكون من الصعب جداً أن نجمع بين العدالة والأخلاق والسياسة، فـ «الآدمية» تـــــواجه خــيارات صعبة.

تقف مي لتقيّم معايير العدالة والشرف التي يعتبرها البعض نسبية فيما تؤكد هي أنها ليست كذلك، إذ لا بدّ من التمييز بين القيم والمعتقدات، بين الآراء والحقائق. أما البطولة والخيانة فتبين كم هما نسبيتان في «خونة وفاتحون». فـ «السيد» كان بطلاً بالنسبة الى الإسبان فيما لم يكن بالنسبة للعرب إلا محارباً لا يعرف شفقة أو رحمة. وعليه تقرن فكرة الشهادة والبطولة بالظروف السياسية التي تحيط بمن يُعتبر بطلاً: عاش «السيد» حين كان الغرب في حاجة إلى شهداء، فيما كان المسلمون المنتصرون ميالين إلى التسامح. أما اليوم، فقد انعكس الوضع، فالغرب كاد ينسى شهداءه فيما يعاني العالم الإسلامي التعيس القلق وانعدام الثقة بالذات، وعليه يمتلئ خطابه بالكلام على الأبطال والشهداء، ويأتي شعره الوطني مفعماً بالحقد والثأر. إلا أنها هنا أيضاً تحلل ما وراء المظهر متسائلة: هل حقد الشاعر العربي على الغرب ناتج من كرهه له، أم من صرخة في سبيل استقلال وطنه؟! وقد نعجب ببطل ما أو لا نعجب، أما الخونة والجبناء فلا شك في حقارتهم، وهم، لسوء الحظ، «أناس عاديون» (ص 128)، مثلنا، مما يجعلنا نشك في حقيقة أنفسنا وفي غيرنا، وفي صحة تصنيفنا الأمور تصنيفاً بسيطاً واضحاً. إلا أنها تعلل الخيانة والوشاية، ولو أنها لا تبررهما، وتقرنهما بالحرب والعنف اللذين ثارت عليهما في الكتاب كله، فتؤكد أن الخيانة تفترض جو الحرب والخيانة جو الخوف، وكلتاهما تقترنان باضطهاد من يخالف الحقيقة التي تمثلها السلطة، دينية كانت أم سياسية. فيتجلى بوضوح دفاع مي غصوب عن حرية الإنسان وكرامته وحقه في التعبير عن الرأي.

إلا أن مي تخفف أحياناً من مأسوية الموضوع بفكاهة محببة وسخرية لطيفة. تقول، مثلاً، في «ثأر جدة ليلى» أن كل من هاجر في الماضي كان يعتقد أنه مهاجر إلى أميركا، ولو أنه في أفريقيا يصرّ على كونه في أميركا، لأن أميركا كانت بالنسبة الى اللبنانيين آنذاك بلاد الفرص والنجاح.

ويبقـــى أسلوب مي الذي يصعب عليّ أن أترجم جمال بلاغته. تكتب، مثلاً، حين كانت في فرنسا جاءها تلفون من لبنان أثار «الذكريات المبتورة من مدينة ممزقة كانت في الماضي مدينتها» (ص 10). أو قولها في وصف مخيّم صبرا: «كيف يمكن أن يأمل المرء بفصل «الداخل» عن «الخارج» في مكان كان سطحه من التنك المموج وبابه يفتح مباشرة على ضجيج الزقاق وغبار التراب الذي يقتحمه» (ص 11). أو قولها «سيادة التعسف وانتصار الفوضى هيّجا خيال الناس، وكلما ازدادت مخاوفهم ومحاولاتهم المسعورة للتغلب على هذه المخاوف، اتّسع ذلك الخيال وامتدّ.» (ص 72)

باختفـــاء مـــي لم نخسر فنانة وباحثة وأديبة فحسب، وإنما خسرنا شخصية مميزة من النادر أن نجد لها مثيلاً في صدقها وشجاعتها وإنسانيتها وعطفها ومروءتها ونخوتها. اختفت مي، ولكنها لم تمت، إذ تخلد في ما خلفت من أعمال فنية وأدبية، وفيما تركت في نفوس أصدقائها الكثيرين من ذكريات لن يمحوها الزمن.

No comments: