Sunday, March 04, 2007

مي غصوب.. الهوى دون أهله

مي غصوب.. الهوى دون أهله!

الوقت - حسين مرهون:
في مستشفى بلندن ماتت مي غصوب. ليس بسبب قذيفة. لقد كان الموت هادئاً ورحيماً مع الكاتبة اللبنانية التي اشتهرت في الأوساط الثقافية بحراثتها المستميتة ضمن الخط النسوي Femminsm الذي ميز النشاط الحثيث لنساء عربيات كثيرات في السنوات الأخيرة. تنقلت كثيراً ما بين بيروت وباريس ولندن. كتبت المسرحيات وأخرجتها. مارست فن النحت والجمالي بشتى أنواعه. أسهمت برفقة أصدقاء في تأسيس إحدى أهم دور النشر العربية (دار الساقي). وفجأة توقف كل شيء. توقف قلب مي غصوب. على رغم أنه ظل طيلة عمره عاشقاً. العشق يطيل العمر. لكنه لا يستطيع الوقوف أمام آلة القدر.
لم يشر إليها رفيق دربها حازم صاغية من قريب أو بعيد في كتابه الصادر حديثاً جداً ‘’ليست سيرة ذاتية’’. لم يقل عنها أي شيء، وعلى العكس من ذلك، قال أشياء كثيرة عن آخرين وأخريات. حوّم طويلاً حول رحلاته ما بين الدمغات القومية والماركسية والخمينية... وأخيراً الليبرالية. لكن عداها. أما هي، فخصّته دائماً بكثير من إشارات الوفاء. وليس صدفة أن جميع كتبه: من ‘’ثقافات الخمينية’’ إلى ‘’وداع العروبة’’ إلى ‘’البعث قياماً وحطاماً’’ إلى ‘’مأزق الفرد في الشرق الأوسط’’.. وحتى كتابه الأخير، (ليس صدفة) أنها صدرت جميعاً عن دارها. إنها المرأة. إنها المرأة.
ومثل كل الخيبات الوجودية التي مرّ بها جيلها، مرت مي باليسار البورجوازي الفرانكوفوني، لكنها انتهت أخيراً إلى الخيار الليبرالي. وهنا تلتقي محطتها مع المحطة التي بلغها زوجها حازم كواحد من منظري التيار الليبرالي العربي. لكن حذار هنا، إنها ليست ليبرالية جديدة. ذلك على رغم انحيازها على المستوى الثقافي ‘’إلى الزائل والعابر’’ على ما عبر بيار أبي صعب في مرثيته لها قبل أيام.
قصتها مع تأسيس ‘’دار الساقي’’ أثيرة جداً. فغداة اندلاع الحرب الأهلية هربت إلى باريس. ومن باريس خرجت في نزهة بسيطة إلى لندن. تحولت النزهة إلى ولع. ابتلعتها زوايا وحواري مدينة الضباب. كان خروجها من بيروت إلى فرنسا ‘’مؤقتاً إلى أن تهدأ الحرب’’، بحسب ما صرحت في أحد الحوارات معها. وكان خروجها من فرنسا إلى لندن ‘’أيضاً مؤقتاً وصدفوياً بامتياز’’. لكن في الخروجين هذين لم تعد مي. لم تعد إلى لبنان كما لم تعد إلى فرنسا ‘’.. إلا مؤقتاً’’. وعلى العكس من ذلك، كانت إقامتها الدائمة في لندن. وهنا هزّها ‘’ضآلة الحضور للثقافة العربية’’. قررت. صارت عندها دار للنشر. بعد 25 عاماً من هذه التجربة، صرّحت ‘’صارت لندن مثل بيروت’’ في إشارة إلى ازدياد الفضاءات التي صارت تولي أهمية إلى الثقافة العربية.
وعلى رغم أن زوجها قد عرف أم كلثوم مبكراً.. ومبكراً جداً. وهو قد كتب عنها ‘’الهوى دون أهله.. أم كلثوم سيرة ونصاً’’، إلا أنها لم تكن كذلك. ومتأخرة.. متأخرة جداً تعرفت إلى أم كلثوم. ألم نقل قبل قليل إنها تميل أكثر إلى الزائل والعابر؟. تقول هنا ‘’قلما كنا نستمع إلى أم كلثوم’’. لكنها حين سمعتها في سن الـ ,17 استدركت ‘’صار عندي تناقض قوي’’. أما السبب، فتوضحه بالقول ‘’كنت مع قضية المرأة وكنت أشعر بالتأزم حين تغني.. إيشي دايماً تغني يا ظالمني.. يا أنا بانتظارك’’. لكن تالياً، تغير هذا الموقف، وهي تابعت هنا ‘’لم أستطع لأن الأغنية تعبر عن شعور نسوي داخلي’’، على ما عبرت في إحدى إطلالاتها على قناة ‘’الجزيرة’’ الفضائية.
وشكل انخراطها في مجال فن النحت محطة إثراء أخرى. تقول مي ‘’أحب النحت لأنني أحب أن أغطس بيدي’’، مضيفة ‘’عندنا في العالم العربي أن الواحد حين يصبح مثقفاً يتوقف عن الشغل بيديه. لكن هذا غلط’’. تتابع موضحة ‘’الشغل باليدين شيء أساسي. التعبير بالكلمات شيء جميل، لكن التعبير باليدين أجمل’’. وتقول ‘’العمل على المنحوتات يعني العمل على الجبس الأبيض والطين وحتى الحديد أحياناً. شعور جميل جداً يشبه ذاك الشعور لدى الخباز حين يصنع الخبز’’.
وعلى خشبة مسرح ‘’مارينان’’ في بيروت حضرت مي آخر مسرحياتها التغريبية: ‘’قتلة الكتاب’’ العام الماضي. ينتهي المشهد الأخير من المسرحية بالعبارة الآتية: ‘’الكلمات لا تقتل.. البشر هم الذين يقتلون’’. ومي لم يقتلها أحد. كان الموت معها هادئاً ورحيماً.
وداعاً مي غصوب.

No comments: